مذكّرة من الأستاذ الدكتور أعواني (رئيس جمعية الحكمة والفلسفة الإيرانية) بمناسبة يوم المهندس

الأخ الكريم، المهندس المحترم السيد خواجوي،
مع فائق التحية والاحترام،

أبارك لكم أولاً "اليوم العالمي للمهندس"، لا سيما للإخوة المهندسين العراقيين الكرام. اسمحوا لي أن أقدّم إليكم بضع كلمات حول أهمية الهندسة والهندسة المعمارية من منظور الحكمة.

أولاً، إن كلمة "هندسة" هي معرّبة من كلمة فارسية تعني "القياس"، أي أن كل شيء في هذا العالم له مقدار. والأمر المهم الآخر هو أن الإنسان، بغض النظر عن مهنته أو عمله، يُعتبر دائماً تجلياً لفعل أو اسم من أسماء الله الحسنى. كما ورد في التعبير القرآني:
"
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا"

فآدم والعالَم هما مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية، وفي كل ما نقوم به، بوعي أو بغير وعي، تظهر تلك الأسماء والصفات في كياننا.

فعلى سبيل المثال، المعلم مظهر لعلم الله، والحكيم مظهر لحكمته، والصانع مظهر لاسم "الصانع". والآن، فلنفكر: ما هو موقع الهندسة في نظام الوجود؟

الجواب: كل ما في "عالم الخلق" يخضع لعلم الهندسة والرياضيات. أي أن أي شيء لا يظهر في هذا العالم ما لم يتم تعيينه بتقدير رياضي. تخيلوا مهندساً يريد أن يبني بيتاً أو سوقاً أو مسجداً، عليه أولاً أن يتصور ذلك تصوراً علمياً. هذا التصور يُعد مفهوماً عاماً، لكن لتحقيقه في الواقع، يجب تحديد أبعاده الرياضية. لذا، يرسم المهندس مخططاً بأبعاد دقيقة وفقاً لقوانين عالم الهندسة، ثم يقوم المعماري بتحقيقه في الواقع مستخدماً المواد اللازمة.

هذا المثال يوضح لنا قاعدة عامة في عالم الوجود: لا يظهر أي شيء في هذا العالم من دون علم الرياضيات أو الهندسة. (ولهذا السبب تُفسَّر جميع قوانين الطبيعة اليوم من خلال الرياضيات).

وقد اعتبر الحكماء القدماء الرياضيات "أداة فعل" لله، كما أن المنشار والفأس أدوات للنجار. فالفاعل المطلق، وهو الله تعالى، خلق العالم بالرياضيات. وقد ورد ذكر الرياضيات في القرآن الكريم بمصطلحي "القدر" و"التقدير"، كما في الآيات:


"
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا"،


"
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"،


"
وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ"،


"
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ"

في هذه الآيات، كلمة "شيء" مشتقة من الفعل "شاء يشاء شيئاً" أو من مصدر "المشيئة"، أي أن وجود الشيء تابع للمشيئة الإلهية. فحقيقة كل شيء موجودة في علم الله، والذي يُطلق عليه "القضاء". فالقضاء والقدر هما مرحلتان لحقيقة واحدة: كل ما ينزل من عالم المشيئة إلى عالم الخلق يجب أن يُعيَّن بتقدير رياضي.

ولا ينبغي أن نساوي بين الرياضيات الإنسانية والرياضيات الإلهية. فالله تعالى هو المهندس الكلي للخلق، مهندس بالمعنى المطلق واللامحدود، أما هندسة المهندسين فليست إلا انعكاساً لهندسته سبحانه.

تخيلوا عالم رياضيات يقرأ مسألة من كتاب أو يدرّسها في الصف. الكتاب يمثل "الوجود الكتابي" للرياضيات. التدريس يمثل "الوجود اللفظي"، ووجودها في الذهن هو "الوجود الذهني"، لكن الوجود الواقعي للرياضيات هو في "العالم الخارجي"، وهو غير محدود بالذهن.

من جهة أخرى، نحن نفرض الرياضيات من "الخارج" على الأشياء، في حين أن الرياضيات في الطبيعة مرتبطة بجوهر الأشياء وذاتها. على سبيل المثال، جميع الزهور الملونة، وأجسام الحيوانات والبشر، والقمر، والشمس، والنجوم، جميعها ذات بنية رياضية مرتبطة بجوهرها ونفسها.

مثال آخر من الموسيقى: كان الحكماء القدماء يعتبرون الموسيقى فرعاً من فروع الرياضيات، لأن أنغامها تخضع لقوانين رياضية. لذا فإن عزف الموسيقى وسماعها كلاهما تابع للرياضيات. وكذلك فإن دوران الأفلاك السماوية، كما كان يُعتقد قديماً، تابع لـ"النفس الفلكية". ومن وجهة نظر الحكماء الإلهيين، فإن العالم بأسره له "نفس كلي"، ولذلك فهو تابع للرياضيات أيضاً.

علينا أن ننتبه إلى أن العلم الإلهي أعلى من الرياضيات، لكنه حين ينزل إلى هذا العالم، يتحدد في صورة رياضية.

وبالتالي، فإن علم الهندسة والرياضيات وتطبيقه في مجال الهندسة، إذا ما نُظر إليه من زاوية الحكمة، يمكن أن يكون من أفضل السبل لمعرفة الله والوصول إلى التوحيد.

والأعجب من كل ذلك، هو وجود المهندس ذاته، الذي وضع الله فيه هذا الاستعداد لاكتشاف هذه القوانين، وليمارسها كخليفة لله على الأرض.وبعبارة أخرى، فإن عمل المهندس هو استمرار لعمل الله في الأرض.

وللأسف، تُعتبر الرياضيات في العلم الحديث علماً مادياً فقط، ولذلك يُفسَّر العالم من منظور مادي بحت، بينما كان الحكماء في الماضي والقرآن الكريم يفسّرون الهندسة والرياضيات والهندسة المعمارية، كغيرها من المهن، من منظور الحكمة الإلهية.

لقد بيّن الفيلسوف أفلاطون في رسالته الشهيرة "تيماوس" كيف أن "الديميورجوس" (الصانع الإلهي) يخلق العالم في كل لحظة بعلمه الأزلي باستخدام الرياضيات. ويمكن ملاحظة هذا الرأي بوضوح في أعمال الحكماء المسلمين مثل السهروردي وملا صدرا في الحكمة المتعالية.

وأختم هذا الحديث بأبيات من المثنوي المعنوي للشاعر جلال الدين الرومي، من كتاب المثنوي الشريف:

اِجعَلِ الخَلقَ كالماءِ النَّقيِّ الجَميل،
تنعَكِسُ فيهِ صِفاتُ ذي الجَلالِ النَّبيل


عِلمُهم، عَدلُهم، لُطفُهم في الوُجود،
كالنُّجومِ السَّماويَّةِ في الماءِ تسيرُ بلا جُمود

كم تَبدَّلَ الماءُ في هذا السَّيلِ الدَّؤوب،
لكن بَقِيَت صُوَرُ القَمرِ والنُّجومِ لا تغيب

الوجوهُ الحَسَناءُ مِرآةُ جَمالِهِ،
وعِشقُهم صُورةٌ مِن مَطلُوبِهِ

هذه الأبيات تُعبّر عن رؤية مولانا العرفانية حول تجلّي الصفات الإلهية في الإنسان ومظاهر العالم. فهو يرى الإنسان كالماء الصافي الذي تنعكس فيه صفات الله، كما أن هذه الصفات تبقى ثابتة رغم تعاقب الأزمنة والأجيال.الحكمة تعني أن يستيقظ الإنسان من غفلة النوم، وبعد تحرره منها، يرى صفات الله وآثاره في جميع مظاهر الكون.

وبعبارة أخرى، فإن كل علم، بما في ذلك علوم وفنون الهندسة، إذا نُظر إليه من زاوية الحكمة، يكون طريقاً راسخاً إلى معرفة الله والتوحيد، كما أشار إليه القرآن الكريم مراراً وتكراراً.

والحمد لله رب العالمين
عصر يوم الأحد، الخامس من إسفند 1403 هـ ش
غلامرضا أعواني

BolandPaye